الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وأما ثالثا: فلأنه يؤدي إلى أن يكون الفرق بين ما يقوم بالقارئ من الألفاظ وبين ما يقوم بذاته تعالى باجتماع الأجزاء وعدم اجتماعها بسبب قصور الآلة فنقول هذا الفرق إن أوجب اختلاف الحقيقة فلا يكون القائم بذاته من جنس الألفاظ وإن لم يوجب وكان ما يقوم بالقارئ وما يقوم بذاته تعالى حقيقة واحدة والتفاوت بينهما إنما يكون باجتماعه وعدمه اللذين هما من عوارض الحقيقة الواحدة كان بعض صفاته الحقيقية مجانسا لصفات المخلوقات.وأما رابعا:فلان لزوم ما ذكره من المفاسد وهم فإن تكفير من أنكر كون ما بين الدفتين كلام الله تعالى إنما هو إذا أعتقد أنه من مخترعات البشر أما إذا أعتقد أنه ليس كلام الله بمعنى أنه ليس بالحقيقة صفة قائمة بذاته بل هو دال على الصفة القائمة بذاته لا يجوز تفكيره أصلا كيف وهو مذهب أكثر الأشاعرة ما خلا المصنف وموافقيه وما علم من الدين من كون ما بين الدفتين كلام الله تعالى حقيقة إنما هو بمعنى كونه دالا على ما هو كلام الله تعالى حقيقة لا على أنه صفة قائمة بذاته تعالى وكيف يدعي أنه من ضروريات الدين مع أنه خلاف ما نقله عن الأصحاب وكيف يزعم أن هذا الجم الغفير من الأشاعرة أنكروا ما هو من ضروريات الدين حتى يلزم تكفيرهم حاشاهم عن ذلك.وأما خامسا: فلأن الأدلة الدالة على النسخ لا يمكن حملها على التلفظ بل ترجع إلى الملفوظ كيف وبعضها مما لا يتعلق النسخ بالتلفظ به كما نسخ حكمه بقى تلاوته انتهى.والجواب أما عن الأول فهو أن الحق عز أسمه له كلام بمعنى التكلم وكلام بمعنى المتكلم به وما هو أمر واحد المعنى الأول وهو صفة واحدة تتعدد تعلقاتها بحسب تعدد المتكلم به من الكتب والكلمات وأنها ليست من جنس الحروف والألفاظ أصلا لا الحقيقية ولا الحكمية وما ذكر في الاعتراض ينطبق عليه بلا كلفة (والدليل) على أن المنعوت بهذه الأوصاف عند الشيخ هو المعنى الأول نقل الإمام أن الكلام الأزلي لم يزل متصفا بكونه أمرا نهيا خبرا ولا شك أن هذه أقسام المتكلم به وكل من كان قائلا بانقسام الثاني كان المنعوت بالوحدة ذاتا والتعدد تعلقا المعنى الأول عنده جمعا بين الكلامين.(وأما عن الثاني) فهو أن ذلك إنما يلزم إذا أريد من اللفظ الحقيقي وأما إذا أريد النفسي الحكمي فلا ورود له لأن الألفاظ النفسية كلها مجتمعة الأجزاء في الوجود العلمي مع كونها مترتبة كما ذكره هو نفسه وكلام صاحب المواقف محتمل للتأويل كما تقدم فليحمل عليه سعيا بالإصلاح مهما أمكن (وأما الثالث) فهو أن الإيراد مبني على ظن أن المراد باللفظ الحقيقي مع أنه محتمل لأن يراد النفسي كما يقتضيه ظاهر تشبيهه بالقائم بنفس الحافظ.(وأما الرابع) فهو أن الكلام النفسي عند أهل الحق هو مجموع اللفظ النفسي والمعنى ولكن ظاهر كلام صاحب المواقف يدل على أنه فهم من ظاهر كلام بعض الأصحاب أن مرادهم بالمعنى هو المقابل للفظ مجردا عن اللفظ مطلقا وقد سمعهم يقولون إن الكلام اللفظي ليس كلامه تعالى حقيقة بل مجازا فإذا أنضم قولهم بنفي كونه كلاما حقيقة شرعية إلى قولهم في ظنه أن النفسي هو المعنى المقابل للفظ لزم من هذا ما هو في معنى القول بكون اللفظي من مخترعات البشر ولا يخفى استلزامه للمفاسد ولكن لم يريدوا بالمجاز الشرعي فإن إطلاق كلام الله تعالى المسموع متواتر فلا يتأتى نفيه لأحد بل المراد أن الكلام إنما يتبادر منه ما هو وصف للمتكلم وقائم به قياما يقتضيه حقيقة الكلام وذات المتكلم في الحق والخلق على الوجه اللائق بكل. وأما ما يتلى فهو حروف عارضة للصوت الحادث ولا شك أنه ليس قائما بذاته سبحانه من حيث هو هو بل هو صورة من صور كلامه القديم القائم به تعالى ومظهر تنزلاته فهو دال على الحقيقي القائم فسمى كلاما حقيقة شرعية لذلك وفيه إطلاق لأسم الحقيقة على الصورة فيكون مجازا من هذا الوجه وإلى هذا يشير كلام التفتازاني فلا يلزم شيء من المفاسد واعتراض صاحب المواقف مبني على ظنه.(وأما الخامس) فهو أن كلام صاحب المواقف ليس نصافي أن الضمير راجع إلى التلفظ بل يحتمل أن يكون راجعا إلى الملفوظ وذلك أنه قال المعنى الذي في النفس لا ترتب فيه كما هو قائم بنفس الحافظ ولا ترتب فيه وقد مر أن المراد به مجموع اللفظ النفسي والمعنى كما يقتضيه ظاهر التشبيه بالقائم بنفس الحافظ ولا شك أنه لا ترتب فيه أي لا تعاقب فيه في الوجود العلمي وحينئذ فقولهم نعم الترتب إنما يحصل في التلفظ معناه أن الترتب في المعنى النفسي الذي هو مجموع اللفظ النفسي والمعنى إنما يحصل في التلفظ الخارجي لضرورة عدم مساعدة الآلة فقوله وهو الذي هو حادث أي الملفوظ بالتلفظ الخارجي الذي هو الصورة حادث لا اللفظ النفسي وتحمل الأدلة التي تدل على الحدوث على حدوثه أي الملفوظ بالتلفظ الخارجي وعلى هذا لا ورود للاعتراض أصلا (ومنهم) من أعترض أيضا بأنهم اشتركوا في المعجزة أن تكون فعل الله تعالى أو ما يقوم مقامه كالنزول فلا يكون القرآن اللفظي الذي هو معجزة قديما صفة له تعالى ولا يخفى أن المعجزة هو القرآن في مرتبة تنزله إلى الألفاظ الحقيقة العربية فكونه لفظا حقيقيا عربيا مجعول بالنص فيكون معجزة بلا شبهة والقديم على ما حقق هو القرآن اللفظي النفسي الذي هو مجموع اللفظ النفسي والمعنى وهذا واضح لمن ساعدته العناية وقد شنع على الشيخ الأشعري في هذا المقام أقوام تشابهت قلوبهم واتحدت أغراضهم وإن اختلفت أساليبهم وها أنا بحوله تعالى راد لاعتراضاتهم بعد نقلها غير هياب ولا وكل وإن أتسع علم أهلها فالبعوضة قد تدمي مقلة الأسد وفضل الله تعالى ليس مقصورا على أحد (فأقول) قال تلميذ مولانا الدواني عفيف الدين الإيجي ما حاصله أن هذا الذي تدعيه إلا شاعرة من أن للكلام معنى آخر يسمى النفسي باطل فإنا إذ قلنا زيد قائم فهناك أربعة أشياء.(الأول) العبارة الصادرة عنه (والثاني) مدلول هذه العبارة وما وضع له هذه الألفاظ من المعاني المقصودة بها (الثالث) علمه بثبوت تلك النسبة وانتفائها (الرابع) ثبوت تلك النسبة وانتفاؤها في الواقع والأخير أن ليسا كلاما إتفاقا والأول لا يمكن أن يكون كلام الله حقيقة على مذهبهم فبقى الثاني وكذا نقول في الأمر والنهي هاهنا ثلاثة أمور (الأول) الإرادة والكراهة الحقيقية (الثاني) اللفظ الصادر عنه (الثالث) مفهوم لفظه ومعناه والأول ليس كلاما اتفاقا والثاني كذلك على مذهبهم فبقى الثالث وبه صرح أكثر محققيهم وكونه كلاما نفسيا ثابتا لله تعالى شأنه محكوما عليه بأحكام مختلفة باطل من وجه (الأول) أنه مخالف للعرف واللغة فإن الكلام فيهما ليس إلا المركب من الحروف (الثاني) أنه لا يوافق الشرع إذ قد ورد فيما لا يحصى كتابا وسنة أن الله تعالى ينادي عباده ولا ريب أن النداء لا يكون إلا بصوت بل قد صرح به في الأخبار الصحيحة وباب المجاز وإن لم يغلق بعد إلا أن حمل ما يزيد على نحو مائة ألف من الصرائح على خلاف معناه مما لا يقبله العقل السليم (الثالث) أن ما قالوه من كون هذا المعنى النفسي واحدا يخالف العقل فإنه لا شك أن مدلول اللفظ في الأمر يخالف مدلوله في النهي ومدلول الخبر يخالف مدلول الإنشاء بل مدلول أمر مخصوص غير مدلول أمر آخر وكذا في الخبر ولا يرتاب عاقل أن مدلول اللفظ لا يمكن أن يكون غير القرآن وسائر الكتب السماوية فيلزم أن يكون كل واحد مشتملا على ما أشتمل عليه الآخر وليس كذلك وكيف يكون معنى واحد خبرا وإنشاء محتملا للتصديق والتكذيب وغير محتمل وهو جمع بين النفي والإثبات. انتهى.ولا يخفى أن مبنى جميع اعتراضاته على فهمه أن مرادهم بالمعنى النفسي هو مدلول اللفظ وحده أي المعنى المجرد عن مقارنة اللفظ مطلقا ولو حكميا وقد عرفت أنه ليس كذلك بل المراد به مجموع اللفظ النفسي والمعنى وهو الذي يدور في الخلد وتدل عليه العبارات كما صرح به إمام الحرمين وعليه إذا قال القائل زيد قائم فهناك أربعة أشياء كما ذكر المعترض وشيء خامس تركه وهو المراد وهي هذه الجملة بشرط وجودها في الذهن بألفاظ مخيلة ذهنية دالة على معانيها في النفس وهذا يعنونه بالكلام النفسي فلا محذور (ونقول) على سبيل التفصيل (أما الأول) فجوابه أنه إنما تتم المخالفة إذا لم يكن عندهم مجموع اللفظ النفسي والمعنى فحيث كان لا مخالفة لأن الكلام حينئذ مركب من الحروف إلا أنها نفسية غيبية في الحق خيالية في الخلق (وأما الثاني) فجوابه أن هذا الذي لا يحصى ليس فيه سوى أن الحق سبحانه وتعالى متكلم بكلام حروفه عارضة للصوت لا أنه لا يتكلم إلا به فلا ينتهض ما ذكر حجة على الشيخ بل إذا أمعنت النظر رأيت ذلك حجة له حيث بين أن الله تعالى لا يتكلم بالوحي لفظا حقيقيا إلا على طبق ما في علمه وكلما كان كذلك كان الكلام اللفظي صورة من صور الكلام النفسي ودليلا من أدلة ثبوتها: {والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} وأما (الثالث) فجوابه أن المنعوت بأنه واحد بالذات تتعدد تعلقاته هو الكلام بمعنى صفة المتكلم ووحدته مما لا شك لعاقل فيها وأما الكلام النفسي بمعنى المتكلم به فليس عنده واحدا بل نص في الإبانة على انقسامه إلى الخبر والأمر والنهي في الأزل فلا اعتراض وقال النجم سليمان الطوفي إنما كان الكلام حقيقة في العبارة مجازا في مدلولها لوجهين (أحدهما) أن المتبادر إلى فهم أهل اللغة من إطلاق الكلام إنما هو العبارة والمبادرة دليل الحقيقة (الثاني) أن الكلام مشتق من الكلم لتأثيره في نفس السامع والمؤثر فيها إنما هو العبارات لا المعاني النفسية بالفعل نعم هي مؤثرة للفائدة بالقوة والعبارة مؤثرة بالفعل فكانت أولى بأن تكون حقيقة والأخرى مجازا وقال المخالفون أستعمل لغة في النفسي والعبارة (قلنا) نعم لكن بالاشتراك أو بالحقيقة فيما ذكرناه وبالمجاز فيما ذكرتموه والأول ممن قالوا الأصل في الإطلاق الحقيقة قلنا والأصل عدم الاشتراك ثم أن لفظ الكلام أكثر ما يستعمل في العبارات والكثرة دليل الحقيقة وأما قوله تعالى: {يقولون في أنفسهم} فمجاز دل على المعنى النفسي بقرينة: {في أنفسهم} ولو أطلق لما فهم إلا العبارة وأما قوله تعالى: {وأسروا قولكم} فلا حجة فيه لأن الأسرار خلاف الجهر وكلاهما عبارة عن أن يكون أرفع صوتا من الآخر وأما بيت الأخطل فالمشهور أن البيان وبتقدير أن يكون الكلام فهو مجاز عن مادته وهو التصورات المصححة له إذ من لم يتصور ما يقول لا يوجد كلاما ثم هو مبالغة من هذا الشاعر بترجيح الفؤاد على اللسان انتهى وفيه ما لا يخفى أما أو لا فلأن ما أدعاه من التبادر إنما هو لكثرة استعماله في اللفظي لمسيس الحاجة إليه لا لكونه الموضوع له خاصة بدليل استعماله لغة وعرفا في النفسي والأصل في الإطلاق الحقيقة وقوله والأصل عدم الاشتراك قلنا نعم إن أردت به الاشتراك اللفظي ونحن لا ندعيه وإنما ندعي الاشتراك المعنوي وذلك أن الكلام في اللغة بنقل النحويين ما يتكلم به قليلا كان أو كثيرا حقيقة أو حكما.(وأما ثانيا) فلأن ما أدعاه من أن المؤثر في نفس السامع إنما هو العبارات لا المعاني النفسية الأمر فيه بالعكس بدليل أن الإنسان إذا سمع كلاما لا يفهم معناه لا تؤثر ألفاظه في نفسه شيئا وقد يتذكر الإنسان في حالة سروه كلاما يحزنه.وفي حالة حزنه كلاما يسره فيتأثر بهما ولا صوت ولا حرف هناك وإنما هي حروف وكلمات مخيلة نفسية وهو الذي عناه الشيخ بالكلام النفسي وعلى هذا فالسامع في قولهم لتأثيره في نفس السامع ليس بقيد والتأثير في النفس مطلقا معتبر في وجه التسمية.(وأما ثالثا) فلأن ما قاله في قوله تعالى: {يقولون في أنفسهم} من أنه مجاز دل على المعنى النفسي فيه بقرينة: {في أنفسهم} ولو اطلق لما فهم إلا العبارة يرده قوله تعالى: {يقولون بأفواههم} وفي آية: {بألسنتهم ما ليس في قلوبهم} إذ لو كان مجرد ذكر: {في أنفسهم} قرينة على كون القول مجازا في النفسي لكان ذكر: {بأفواههم وبألسنتهم} قرينة على كونه مجازا في العبارة واللازم باطل فكذا الملزوم. نعم التقييد دليل على أن القول مشترك معنى بين النفسي واللفظي وعين به المراد من فرديه فهو لنا لا علينا.
|